مواجهة الظلم، ما هي معاييره؟
موضوع هذا المقال هو دور الكنيسة في مواجهة الظلم، الذي اقترح في أواخر القرن الماضي. ما بين رأي المسيحيين اللبراليين وبين الفكر التقليدي لآباء الكنيسة. قبل أن نبدأ به، نحتاج أن نعرف المفهوم الذي نتكلم عنه:
تعريف مصطلح "مواجهة المؤمن للظلم" في عالمنا:
تعني أن يقف المؤمن موقف مع العدل، ويفضح الظلم الذي يراه حوله، والذي عادة يكون سياسي، وفي بعض الأحيان مجتمعي.
مع أن مواجهة الظلم كانت جزءً من خدمة الأنبياء في العهد القديم؛ إلا أن التعريف السابق، قد يكون وصفة لكوارث عديدة صعبة للكنيسة والمجتمع؛ لذلك نحتاج أن نقدم بعض المعايير والتوضيحات الكتابية له، لكي لا تخدعنا الشعارات العالمية، وتبعدنا عن مشيئة الرب الكاملة المباركة؛ التي هي دائمًا الأفضل لشعبنا، وللعالم. لذلك نحتاج أن نحفظ ونفهم المعايير الإلهية القادمة لدورنا من جهة العدل والظلم، إذا أردنا أن لا نضل عن التفسير السليم للوحي:
(1) ما هو العدل؟ وبحسب أي معايير يعتبر؟
كما قلنا في المقال السابق، الكتاب المقدس هو معيار العدل والبر، الظلم والشر؛ وهو يقاس على محورين غير منفصلين: العدل في حق الخالق، والعدل في حق المخلوق. سلخ العدالة في حق الخالق من القضية، هو بمثابة السير في وراء العالم ورمي المأمورية العظمى وملكوت الله خلفنا! أيضًا تستخدم المسيحية اللبرالية نظام العالم في تحديد ما هو العدل. فيقولون لك "القانون الدولي... ميثاق جنيف لحقوق الإنسان... محكمة العدل الدولية...". وهذا شيء يتضارب مع كلمة الله وفهمنا السليم للوحي؛ الذي يسمي العالم ومحاكمه بالظالمين (1 كورنثوس 6: 1)!!
ولا يمكن لأهل العالم أن يعرفوا العدل الحقيقي، وهم لا يعرفون الله نفسه إله الحق والعدل:
"لأَنَّهُ حِينَمَا تَكُونُ أَحْكَامُكَ فِي الأَرْضِ يَتَعَلَّمُ سُكَّانُ الْمَسْكُونَةِ الْعَدْلَ" (إشعياء 26: 9)!!
(2) نحن ككنيسة لا نقف مع العدل، بل نقف مع الله وملكوته:
إذا أردنا أن نقف مع العدل فعلا، يجب أن نقف مع الله وملكوته. عندها سيكون مفهومنا للعدل صحيح وصحي. لأنه، بحسب الله، بخصوص خدمتنا في عالم الفاسد، يجب أن نؤسس كل مفاهيم العدل، الحق، السلام، الخير...إلخ، على أربع أعمدة أساسية:
الأول: محبة الجميع ومعاملتهم بالمساواة التامة.
الثاني: الله يريد أن تتوفر الإرادة الحرة الأدبية لكل إنسان بالتساوي.
الثالث: عدالة مؤسسة على خدمة الخلاص لجميع الناس، وامتداد ملكوت الله، وليس ترقيع ملكوت البشر. لذلك يجب أن يكون هذا هدفنا وأساس كل شيء نعمله.
الرابع: الدعوة للمسيح كالوسيط والمنقذ الوحيد بين الله والناس.
نراهم في الآيات التالية:
"1 فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ تُقَامَ طِلْبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ (1- المساواة بين الناس)، 2 لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ (2- حرية تغيير الدين وتبعية المسيح مثلا) 2 لأَنَّ هذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ، 3 الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ (3- خلاص الناس) 4 لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ (4- فقط من خلال المسيح)" 1 تيموثاوس 2
طبعًا هناك المئات من القضايا والأخلاقيات التي يحث الوحي عليها، والتي يجب أن نأخذ مواقفًا فيها. أما النقاط السابقة، فهي فقط الأعمدة التي يؤسس عليها كل مناداة: السلام، الحق، العدل والظلم من منظار الله. هي أساسات يَبني عليها الوحي كل شيء آخر من جهة خدمة الكنيسة، إذا أردنا أن نعمل لملكوت الله. بالنسبة لله، العالم غير المؤمن ينقسم لقسمين، ضد المسيح وليس ضد المسيح؛ أي لا يحارب الإيمان بالمسيح (وحتى إن لم يؤمن به)، بل يترك القضية لحرية الشخص. نفهم هذا من الطريقة التي قسم بها المسيح العالم، حيث قال: "مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا" (لوقا 9: 50). فجميع الدول التي لا تحارب الإيمان بالمسيح، بل تترك القضية لاختيار الناس. تنقل نفسها من دول تحت غضب الله، لدول ممكن أن تختبر سلام وبركات معينة من الله.
(3) نحن نأخذ مواقف كتابية كسفراء للمسيح:
أي نخدم شعوبنا كأننا المسيح على الأرض. لذلك مثال المسيح هو أهم مثال لنا كخدام له على الأرض.
"18 وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، 19 أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ 20 إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ." 2 كورنثوس 5.
إن القضية التي يتهرب منها دائمًا مروجي العدالة الاجتماعية، هي أن المسيح وجه كل انتقاداته في السياق الديني والأخلاقي للقادة الدينيين، وليس في الإطار السياسي. والنص الوحيد اليتيم الذي يضربون بسيفه هو:
"31 فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ: «اخْرُجْ وَاذْهَبْ مِنْ ههُنَا، لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ». 32 فَقَالَ لَهُمُ: «امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ" لوقا 13
هل المسيح شتم هيرودس؟ أو حتى انتقده؟
تعبير أنثى الثعلب، هو وصف سلوكي، يتسم بالمراوغة والاحتيال والقساوة والإضرار (وليم إدري)؛ كونه أيضًا قطع رأس يوحنا المعمدان باستهتار، قبلها بحوالي سنتين. لكن نرى من قرينة النص، أن المسيح يقصد أنه بالرغم من إجرام وتهديد هيرودس له، لن يوقفه هذا عن عمله الموكل له من الآب. والقرينة لهذا التفسير، هي تكملة الآية: "هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ". وفي الحقيقة، هي أيضًا رسالة موجهه للفريسيين قبل هيرودس، قائلة: إن كان هيرودس لا يخيفني، فبالتأكيد لن تنجح خططكم لإفشالي، فرئيس الشياطين نفسه فشل في هذا.
* (والوصف ممكن أن نقارنه بقول المسيح لتلاميذه: "فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ". لم يقصُد به المسيح إهانة التلاميذ، بحثهم أن يكونوا كالحية التي لعنها الله! بل وجه الشبه الذي قصده المسيح محدد، أن يتحلوا بحكمة الحية، وهي الحذر والحساسية الخارقة لما يدون حولهم على الأرض متى 10: 16).
(4) لا نواجه ولا نحارب الظلم، بل ننشر النور والحق:
"38 «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ 39 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. 40 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا 41 وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ." متى 5.
"19 لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:«لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. 20 فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ». 21 لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ" رومية 12
يفهم المسيحيون اللبراليون عبارة "اغلب الشر بالخير" أنك يجب أن تحارب الشر بالخير!
المفهوم خاطئ كليًا، فالسياق يتكلم عن حرب تجد نفسك فيها وأنت مغلوبًا على أمرك، دون أن تبحث عنها: "من لطمك... من أراد أن يخاصمك... من سخرك...". دعينا لنشر البر والنور وليس لمحاربة الشر والظلمة.
"13 لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ (مسرة الله) 14 اِفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ، 15 لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَدًا ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ" فيليبي 2.
إذا الوحي يقول بوضوح "لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ"، أي لا تجعل مقاومة الشر هي الهدف لحياتك! أما إذا وجدت نفسك في تجربة صعبة وشر، يقول لك "اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ". ولا يقول لك، حارب الشر بالخير؛ فهذه تفسير خاطئ، سيحرفك عن أولوية ملكوت الله، لتجعل مقاومة الشر هي الهدف الذي تعيش لأجله، وهذا خطأ.
(5) نتعامل مع الظلم والشر، بقلب بار خالي من المرارة والغضب:
"15 أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟" متى 2
العامل الذي استؤجر في الصباح، كان له اعتراض قانوني وعادل ومنطقي؛ بحسب منظور العالم. لكن أتى من قلب رديء، متذمر وعين شريرة؛ لذلك رفضه الرب.
"15 مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ" عبرانيين 12.
"26 اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ 27 وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا... 31 لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ" أفسس 4.
الآية السابقة تحثنا على أننا عندما نغضب، أن نراعي نقطتين:
الأولى: ألا نخطئ عندما نغضب، لا بالكلام ولا بالتصرف ولا حتى بالفكر.
الثانية: ألا ننام تلك الليلة، دون أن نصطلح مع الشخص الذي غضبنا منه، أو نطلب من الرب إزالة المرارة والغضب من قلوبنا؛ لئلا نعطي إبليس مكانًا.
يقولون لك، المسيح في الهيكل غضب، إذا هناك غضب مقدس على الظلم والظالم!! وهذا فهم ملغوط تمامًا:
"17 فَتَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي»." يوحنا 2 (النص يقول غيرة، فكيف أصبح غضب في عقولهم!!).
لا يوجد شيء اسمه غضب مقدس للبشر، فهناك:
(1) غضب إنساني غير مقدس، الله يدعونا أن نتخلص منه:
"26.. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ... 31 لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ.." أفسس 4.
"20 لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ" يعقوب 1.
"8 وَأَمَّا الآنَ فَاطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا الْكُلَّ: الْغَضَبَ.." كولوسي 3.
(2) غضب الله ليس كغضب الإنسان!! نعم المسيح غضب (ليس في تطهير الهيكل بل في مكان آخر): "5 فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِينًا عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ.." مرقس 3.
لكن غضب المسيح، ليس مثال لي؛ لأن غضبه هو غضب الله، المرتبط بدينونة الله للبشر. لذلك كلما تقرأ في الوحي عن كلمة "غضب" المرتبطة بالله، هي آيات تتكلم عن دينونة الله للبشر. فهل لك الحق أنا أن تدين كإنسان؟ بالتأكي لا (متى 7: 1). المسيح يحق له أن يغضب غضب الله، لأنه الديان، حيث قال: "وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ" (يوحنا 8: 16). أما نحي لم نُدعَ لدينونة البشر، لذلك يجب أن نتخلص من الغضب، كما قرأنا!!
(6) نموذج الأنبياء في العهد القديم، يحتاج إيضاحات:
أولا، الظلم، هي أعراض المشكلة وليس المشكلة:
لم ينظر الأنبياء للفساد والظلم كالمشكلة الأساسية؛ بل كأعراض للمشكلة الأساسية، وهي ترك الرب وعبادته. لذلك لم تكن هناك منظومة منفردة لمواجهة الظلم والفساد إطلاقًا؛ بل أتت مناداتهم للعدل كجزء من المنظومة الروحية الأساسية الفاسدة، وهي ترك الرب وعبادة الأوثان:
"4 وَيْلٌ لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ، الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ، نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ، أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ! تَرَكُوا الرَّبَّ، اسْتَهَانُوا بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، ارْتَدُّوا إِلَى وَرَاءٍ... 16 اِغْتَسِلُوا. تَنَقَّوْا. اعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. 17 تَعَلَّمُوا فَعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ" أشعياء 1.
فدائمًا نرى طرح مشاكل الظلم، يأتي كطرح أعراض المشكلة الأساسية، وهي "تركوا الرب". وليس قضية منفصلة عنها، كما يطرحها دعاة "العدل" اللبراليون! ومثلا يقولون لك، بل الله ركز على العدل، في آيات مثل:
"6 إِنْ لَمْ تَظْلِمُوا الْغَرِيبَ وَالْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ، وَلَمْ تَسْفِكُوا دَمًا زَكِيًّا فِي هذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ تَسِيرُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لأَذَائِكُمْ 7 فَإِنِّي أُسْكِنُكُمْ فِي هذَا الْمَوْضِعِ، فِي الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُ لآبَائِكُمْ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ" إرميا 7.
هنا نرى القضايا مقلوبة، يتكلم عن العدل أولا، ومن ثم يتكلم عن ترك الرب "تَسِيرُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ"؟ وهذا تحليل أيضًا خاطئ كتابيًا؛ حيث الله في بداية سفر إرميا، المُستشهد منه، وضع هذا الترتيب في تحليله العام لحالة الشعب، قائلا:
"5 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «مَاذَا وَجَدَ فِيَّ آبَاؤُكُمْ مِنْ جَوْرٍ حَتَّى ابْتَعَدُوا عَنِّي وَسَارُوا وَرَاءَ الْبَاطِلِ وَصَارُوا بَاطِلاً؟ 6 وَلَمْ يَقُولُوا: أَيْنَ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، الَّذِي سَارَ بِنَا فِي الْبَرِّيَّةِ... 13 لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً" إرميا 1.
فنلاحظ في الآيات السابقة، كيف الوحي يحلل ويدرج التدهور للشعب.
المشكلة الأساسية: "وَسَارُوا وَرَاءَ الْبَاطِلِ... تركوني"، أي تركوا الرب وتبعوا الأوثان.
وعنها نتج الفساد والظلم: "وَصَارُوا بَاطِلاً".
وهذا المبدأ العالم الواضح؛ وحتى لو قلبت رسالة الأنبياء ترتيب النقطتين في آيات قليلة. يظل تحليل الوحي من بداية سفر إرميا مثلا، هو الأصدق.
سمعت مرة أحد القسوس الفلسطينيين من بيت لحم، يشارك عن "أكثر آية يحبها"، كما عرفها، من سفر إرميا. وفهم منها أنها تدعونا كمؤمنين أن نجاهد لترويج "العدل" في المجتمع؛ وهي:
"24 بَلْ بِهذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ، لأَنِّي بِهذِهِ أُسَرُّ، يَقُولُ الرَّبُّ" إرميا 9.
وعندما سمعته، كدت أن ألطم على وجهي من طريقة قرأته وتفسيره لها!! موضوع الآية الأساسي هو أن يعرف الإنسان الرب، كما سبق وكتبت (العدالة في حق الخالق) حيث يبدأ الآية بالقول: "بِهذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي"؛ وبعدها يقول " أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ، لأَنِّي بِهذِهِ أُسَرُّ، يَقُولُ الرَّبُّ"، أي يقول أن دور الإنسان أن يعرفني ويطيعني، وأنا دوري أن أجري رحمة، قضاءً وعدلاً في الأرض!! عكس تمامًا، تفسيره وتفسير كل المسيحيين اللبراليين!! وهذا يوضحه في إشعياء، أن البشر لا يعرفون العدل، إلا إذا عرفوا الله ذاته، إله العدل:
"لأَنَّهُ حِينَمَا تَكُونُ أَحْكَامُكَ فِي الأَرْضِ يَتَعَلَّمُ سُكَّانُ الْمَسْكُونَةِ الْعَدْلَ" (إشعياء 26: 9)!!
ثانيًا، مناداة لشعب الرب، وليس لشعوب لا تؤمن بالرب:
فيجب أن نميز بين نموذجين للأنبياء في العهد القديم. أنبياء خدموا في وسط شعب إسرائيل، المتوقع منهم أن يتبعوا جميعهم الرب، والله بنفسه يحكمهم. وهذا النموذج لا ينطبق على حالة العالم الذي نعيش به اليوم. لا توجد فيه دول مقدسة تتبع الكتاب المقدس؛ بل نعيش في عالم شرير، كل نظامه السياسي شرير. لذلك وحي الله الكامل الشامل، طرح لنا نموذج آخر في الكتاب، وهو رجال الله يعيشون في دولة كافرة وظالمة. مثل حزقيال، دانيال، حننيا، ميشائيل، عزريا، نحميا، عزرا، مردخاي، يسوع المسيح، بولس والتلاميذ... إلخ. ومع أنه حتى وظائف البعض منهم كانت في المجال السياسي، أي في القصر أو مرتبطة بالملك. لكن لا نراهم يواجهون الظلم السياسي أو المجتمعي إطلاقًا. بل كانت خدمتهم تعمل ثلاث جوانب:
(1) الإخلاص في عملهم، وموالاتهم للدولة التي يخدمون بها – الدولة المحتلة.
(2) الاهتمام بحالة شعب الرب داخل وخارج عن مكانهم (ملكوت الله).
(3) حياة البر والأمانة التي ترفض أي شيء يتصادم مع إيمانهم فقط (ملك الله على حياتهم).
ثالثًا، كانت للأنبياء سلطة للإصلاح وتعيين الحكام أحيانًا!؟
معظم الأنبياء عاشوا في عصر الثيوقراطية الإلهية (الله يحكم على الشعب)، في إطار شعب الرب. فكانت خدمتهم في دولة يحكمها الله، لذلك كان دورهم إصلاحيًا روحيًا، سياسيًا واجتماعيًا. لذلك لهم سلطة أحيانًا لتعيين الحاكم والملك والقضاة. كالقاضي والنبي صموئيل الذي عين الملك شاول والمك وداود (1 صموئيل 10: 1 و15: 1 و16: 13). صادوق الكاهن وناثان اللذان مسحا سليمان كملك على إسرائيل (1 ملوك 1: 38-39). والنبي إيليا الذي عينه الله بأن يمسح حزائيل ملك على آرام وياهو بن نمشي ملك على إسرائيل (1 ملوك 19: 15-16). فهل نحن نعين ملوك وقادة سياسيين أيضًا!! لذلك كما قلت سابًا، نموذج الأنبياء في إطار شعب الرب، غير صالح للإصلاح المجتمعي والسياسي في عالمنا.
رابعًا، نموذج يوحنا المعمدان، هو إصلاح ديني وليس سياسي:
"3 فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، 4 لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ»" متى 14.
إن توبيخ يوحنا المعمدان لهيرودس أنتيباس، كان يخص فقط الجانب الأخلاقي/الديني. وأيضًا التوبيخ كان في حياته الخاصة، وليس له علاقة بالظلم السياسي والتمييز العنصري في ولايته التي يحكمها!! فهيرودس أنتيباس، كان ابن أم شبه يهودية، وهي ملثاس السامرية؛ ومن المفترض أن يؤمن بأسفار موسى الخمسة، التي فيها هذه الأحكام (لاويين 18: 16)!
إذا فهمنا هذه المبادئ السابقة، لن نضل أبدًا؛ مهما فعلنا من جهة مواجهة الظلم، وترويج الحق الكتابي. والذي من الأفضل أن ننظر إليه كأخذ مواقف كتابية مع أخلاقيات الله في المجتمع والدولة التي نعيش بها. هي مبادئ كتابية أساسية حامية لنا، لتحفظنا من التفاسير الخاطئة لكلمة الله، المحمولة بقلب المسيح الذي فينا.
القدس - 24/ 5/ 2025
باسم أدرنلي