كنيسة بلا جدران

لسنا قضاة بين طرفين متخاصمين

نرى من نصوص كثيرة كتابية، أنه ليس من حق الكنيسة أن تضع نفسها كقاض يحكم بين طرفين متنازعين في هذا العالم الفاسد. هناك قاضي واحد، الرب الديان، له وحده الحق ليقضي ويُدين. ودينونته بحسب الحق؛ والأرض الساقطة لا تعرف الحق ولا العدل. أما الكنيسة، فتلعب دور الوسيط فقط بين المتنازعين، كسفراء عن المسيح. ندعوهم أن يتصالحوا مع الله، ومع الإنسان. إن لم يقبلوا هذا، أقصى حد ممكن أن ننجزه ككنيسة هو، اللجوء للحلول السلمية وحفظ أرواح الأبرياء.

أولا، المسيح كإنسان، رفض الحكم بين المتنازعين!!
وهذا نراه من خلال ردة فعل المسيح كإنسان، عندما طُلب منه رجل أن يحكم بينه وبين أخاه المتنازع معه على الميراث:
"13 وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ: «يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ». 14 فَقَالَ لَهُ: «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟»" لوقا 12.
* إذا المسيح المعين أن يدين البشر (يوحنا 5: 22)؛ نراه يرفض كإنسان أن يضع نفسه بمكان قاضي يحكم فيه بين طرفين متنازعين، إنسان وأخيه! فكم بالحري نزاع بين شعبين، الفلسطيني والإسرائيلي مثلا، الذي يحمل روايات وقصص ودلائل ملايين من الناس المتضاربة، ويرجع لأكثر من مئة عام!! فبالتأكيد ممنوع أن نضع أنفسنا ككنيسة في هذا المكان. فالحكم والدينونة هما دور الله وحده، من خلال الرب يسوع المسيح (متى 7: 1). 
* أما الكنيسة، فيجب أن تأخذ دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة، وليس قاضٍ بينها. تدين الأعمال الشريرة لدية الطرفين. وتحثهم للمسامحة، والتنازل، وللالتفات لمصالح شعوبهم.
* وإذا شعرت الكنيسة نفسها جزئ من الأطراف المتنازعة، يجب أن تطلب من الله أن يخرجها من هذه الدائرة حالا، لتستطيع أن تخدم الله وشعبها فعلا. فترى رؤى الله، أي ترى الأمور بمنظار الله، بعدما تخرج من دائرة الألم والمرارة! لأن الله ذاته لا يقف مع طرف ضد الآخر؛ بل يدعو الطرفين بأن يقتربا ويرجعا إليه. حتى الله لا يقف معنا كمؤمنين؛ بل يكون معنا إذا سرنا نحن معه:
"الرَّبُّ مَعَكُمْ مَا كُنْتُمْ مَعَهُ، وَإِنْ طَلَبْتُمُوهُ يُوجَدْ لَكُمْ، وَإِنْ تَرَكْتُمُوهُ يَتْرُكْكُمْ" (2 أخبار 15: 2).

ثانيًا، اعرف أن نظام العالم هو أصلا ظالم!
"19 نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ مِنَ اللهِ، وَالْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ" 1 يوحنا 5.
وهنا في النص الآتي، يتكلم عن حل الخلافات بين المؤمنين، فيقول لنا أن "عدالة" العالم، هي ظالمة، وقضاته طالمين، بحسب معايير الله!
"1 أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ (خلاف بين مؤمنين من نفس الكنيسة) أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ الظَّالِمِينَ (ἀδίκων يخبرنا أن نظام القضاء العالمي، بعيون الله نظام ظالم، وحكامه ظالمين!) وَلَيْسَ عِنْدَ الْقِدِّيسِينَ؟... 4 فَإِنْ كَانَ لَكُمْ مَحَاكِمُ فِي أُمُورِ هَذِهِ الْحَيَاةِ فَأَجْلِسُوا الْمُحْتَقَرِينَ فِي الْكَنِيسَةِ قُضَاةً! 5 لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ (أي أنه أصغر مؤمن في الكنيسة، فيه احتمالية عدالة، أكثر من أكبر قاضي من العالم!! وطبعًا يتكلم عن حل خلاف بين مؤمنين داخل الكنيسة).." 1 كورنثوس 6.
أما من جهة العالم وقضاياه، يقول لنا الوحي، دع العالم يدير شؤونه، أخبره بالمواقف الكتابية وأقوال الله، ودعه يتولى شؤون ذاته!
"22 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ»." متى 8
فإذا كان نظام العالم كله ظالم بعيون الله؛ دع الظالمين يحاكمون الظالمين، لا تشترك في محاكمهم!! إلا إذا عندك قضية بينك كمؤمن وبين أحد من العالم، أو ليس هناك حلول كنسية، نلتجئ للعالم ونظامه، لأننا نعيش فيه. فدعوة تبعية المسيح، هي دعوة خدمة ملكوت المسيح لعالم جديد. وليس دعوة لترقيع العالم الفاسد، بخدعة ترويج ما يسميه عدد من "اللاهوتيين" الفاسدين، بـ "العدالة الاجتماعية" و"المقاومة السلمية"...إلخ. وكل هذه البدع، التي خدع فيها إبليس الكثير من المؤمنين والكنائس حول العالم، ليصرف طاقتهم عن خدمة ملكوت المسيح الذي لا يساوم. ليجعل بلادهم مثل أوروبا؛ فيها "عدالة اجتماعية" و"حقوق إنسان"، لكن كنيسة شبه ميتة. فإبليس يريد أن يَحْرِفْ الكنيسة عن مأموريتها العظمى، ليجعلها مجرد منظمة فاشلة لحقوق الإنسان، في عالم لا يعرف شيء عن الحقوق ولا العدل وآخر همه الإنسان!!

ثالثًا، لا نحكم على نظام، بل على أعمال محددة:
توبيخ الأعمال وليس الأشخاص أو الهيئات أو الحكومات؛ فهذا شيء حدده الوحي:
"11 وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا" أفسس 5.
لاحظ كلمة "وبخوها" تعود للأعمال، وليس لمن يعمله. لأن نظام العالم غير خاضع لنظام المسيح أصلا.
أما من جهة الناس والخطاة، فالمسيح أحبهم، مثل زكا رئيس العشارين: 
"2 وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيًّا... 5 فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ»" لوقا 19
"19 جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ.." متى 11
هنا نتكلم عن بشر، وليس حكومات؛ فلا نحكم على الخطاة، بل نحبهم لأنهم بشر. عندما تسنح الفرصة المناسبة لنا، نقول لهم أنهم أخطئوا في هذا وذاك، وندعوهم للتوبة وخلاص المسيح. أي نحكم على أعمال محددة؛ كما فعل المسيح مع المرأة الزانية، احترمها كإنسانة، دافع عنها من فساد رجال الدين. لكن قال لها: "اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا" (يوحنا 8: 11). أما تركيز عملنا ككنيسة، هو البشر، وليس الحكومات. هناك أناس مؤمنين يدعوهم الله ليحدثوا تغييرًا في الحكومة. لأن الله: لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ" (أعمال الرسل 14: 17). في كل مكان الله له خدام؛ في السلك الدبلوماسي والحكومات، لكن هذه ليست دعوة الكنيسة، بل دعوة أفراد.

رابعًا، لنا خدمة مع شعبنا والشعب المعادي، لا نريد أن نفقدها:
عندما تخطئ الكنيسة وتقف مع طرف معين في النزاع وقوف حكم (أي الحكم أن شعبي مظلوم والطرف الثاني ظالم)؛ ستخطئ ضد المسيح بجانبين؛ الأول، هو قال "لا تديني لكي لا تدانوا" والثاني، لأنها تخسر خدمة الطرف الثاني. الذي هي مدعوة أيضًا لتخدمه وتصل إليه برسالة الملكوت. فلا ننسى أن خدمة المسيح كان جزء كبير منها موجه لأشر الخطاة، حيث قال: "لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ»." متى 9: 13.
المسيح حتى احترم أعداءه، أكثر من رجال دين شعبه، الفريسيين المنافقين؛ فهو نظر للإنسان كإنسان، دون أن يأخذ مواقف مع طرف ضد الآخر. وأعلن أن سلطان روما قائمٌ بإذنٍ من الله لقصد صالح للجميع، بالرغم من ظلمها؛ حيث قال لبيلاطس:
"11 أَجَابَ يَسُوعُ: « لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ»" يوحنا 19.
فهناك موقفين معظم المؤمنين، وحتى بعض اللاهوتيين، يخلطوا بينهما. وقوف القضاء والحكم، وهو الحكم من الظالم ومن المظلوم، وبأي مقاييس، وهو موقف فقط الله يقدر أن يأخذه. ووقوف الرحمة، وهو موقف نحن مطالبين بأن نأخذه؛ مع المِسكين، المُستضعف، وعديم القدرة.
أما مواقف الرحمة لله، فهو قائم نحو جميع البشر، حتى الخطاة والأشرار. ودعانا أن نتشبه به في هذا الموقف؛ عندما يقول لنا كيف نتوحد مع الله في محبة من يعادينا، فيقول:
"44 أحبوا أعدائكم.. 45 لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ" متى 5.
"20 فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ»" رومية 12.
هذا موقف رحمة، بأحشاء محبة المسيح لمن يعادينا. فهذا الموقف لا يعني أني من خلاله أشهد أن من يعاديني على حق، وأنا على باطل. بل موقف أتوحد به كمؤمن، مع قلب المسيح الذي يحبه؛ ويريد أن يخترق إلى قلبه ويغيره.
بعض الآيات التي توضح الفرق بين الموقفين:

(1) وقوف الله مع المسكين، المستضعف واليتيم والأرملة...إلخ، وقوف رحمة:
"9 وَيَكُونُ الرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ (المُضطَهَد، المظلوم، المُصاب). مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ" مزمور 9.
"5 مِنِ اغْتِصَابِ الْمَسَاكِينِ، مِنْ صَرْخَةِ الْبَائِسِينَ، الآنَ أَقُومُ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَجْعَلُ فِي وُسْعٍ الَّذِي يُنْفَثُ فِيهِ (سأعطيهم الأمان الذي يتوقون إليه)" مزمور 12.
"9 الرَّبُّ يَحْفَظُ الْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ، أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ (يجعلهم يهلكون في طُرُقِهم)" مزمور 146.
جميع ما سبق، يتكلم عن وقوف رحمة، وليس وقوف قضائي؛ به يحكم أن المسكين على حق، والغني، أو القوي على خطأ!! القضية غير مرتبطة بهذا السياق إطلاقًا. والكثير من المؤمنين لا يدركون هذه النقطة الهامة، فيستخدمون الآيات بشكل خاطئ. يقولون لك "الرب ملجأ للمضطهد" لذلك هو واقف مع الفلسطيني، ضد الإسرائيلي الذي يضطهده!! لكن هذا الاستخدام خاطئ للآية!
إن وقوف الرحمة،  يعني الله يقف مع المسكين والمظلوم، من حبه لهما، وليس لأنهما على حق!

(2) الله الوحيد الذي يعرف القضاء والحكم:
فممكن أن يأخذ موقف حكم ضد المظلوم، بسبب شره؛ وأيضًا هو ضد الظالم! فليس كل مظلوم تقي؛ فهل الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي شعوب تقية؛ لا بل أشرار.
وشعب إسرائيل عندما سمح الله أن يُسبى عن طريق مملكة بابل، الله يقول أنهم كانوا مظلومون!
"33 هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي يَهُوذَا مَعًا مَظْلُومُونَ (من الاحتلال البابلي)، وَكُلُّ الَّذِينَ سَبَوْهُمْ أَمْسَكُوهُمْ. أَبَوْا أَنْ يُطْلِقُوهُمْ" إرميا 50.
فهل لمجرد أنهم مظلومون، الله وقف معهم ضد البابليين؟ الطبع لا. 
فمع أن شعب إسرائيل كانوا مظلومين بحسب الآية، الله لم يقف معهم، بل ضدهم؛ وسمح بدينونة وسبي ليقع عليهم، ليؤدبهم ويصلحهم. لذلك الله، من جهة القضاء، يقف مع الصالح، فرد أو شعب؛ وليس مع المظلوم. وهذا موقف ليس لنا أن نتداخل فيه، سر الدينونة القضاء فقط بيد الرب.
وللخلاصة أقول:
* إذا المسيح كإنسان، رفض وضع نفسه كقاضي بين طرفين متنازعين؛ فبالتأكيد ممنوع أن نضع أنفسنا ككنيسة في هذا المكان. فالحكم والدينونة هما دور الله وحده (متى 7: 1). 
* أما دور الكنيسة فيجب أن يكون دور وسيط بين الأطراف المتنازعة، وليس قاضٍ بينها أو أحدها. 
* نظام العالم ظالم، فدع أبنائه يحكمون على بعضهم البعض فيه.
* لا نحكم على الخطاة، بل نخدمهم وندعوهم للتوبة ونعلن لهم الحق.
* نقف مع شعبنا، وقوف رحمة، أنهم أهلنا. لكن لا نناصرهم على خطأهم، بل نوبخهم على كل أعمالهم الخاطئة والأثيمة.

القدس - 17/ 05/ 2025
باسم أدرنلي

2 مشاهدة