يجب أن نسعى لأجل صنع السلام
الله من الناحية الأولى، مشيئته سلام لجميع الأمم، فلا يشأ للبشر القتال والحرب. لكن من الناحية الثانية، المسيح لم يأت ليصنع سلام على الأرض بمجيئه الأول، لأن السلام هو أحد أركان عصر النعمة الطوعية لمن يقبلها ويختارها:
"وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ" (لوقا 4: 19).
"19 وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً" يوحنا 3
لأن صنع السلام التام في ظل عالم شرير، يحتاج لفرضه من قبل الله ودينونة الأشرار بشكل جذري. وهذا العصر لم يأت بعد، بحسب توقيت الله الحكيم:
"2 وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي رَأْسِ الْجِبَالِ... 4 فَيَقْضِي بَيْنَ الأُمَمِ وَيُنْصِفُ لِشُعُوبٍ كَثِيرِينَ، فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ" أشعياء 2.
مجيء الرب الثاني، سيُنهي باب التوبة ويُهلك الأغلبية من سكان الأرض؛ هو يوم مرعب! وهذا ما يجعل الرب يؤخره على قدر الحاجة، بحسب خططة التي دائمًا وأبدًا تكون لمصلحة البشر:
"9 لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ" 2 بطرس 3.
السلام الأرضي غير الكامل:
لكن مع هذا، الله لا يريد للبشر أن يقتتلوا ويحاربوا بعضهم البعض! لذلك يعلمنا أن الفكر السلمي هو من الله، والعنفي هو من الشيطان:
"17 وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ (أي مطاوعة، وغير متصدمة)، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ" يعقوب 3.
لذلك الرب دعانا لصنع السلام بين الإنسان والله، والذي هو أساس السلام بين البشر:
"9 طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ" متى 5.
"1 فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" رومية 5
"20 إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ" 2 كورنثوس 5.
لذلك يجب أن نسعى نحو الهدوء والسلام الأرضي بين الناس، وحتى بعالم الأرض الشرير؛ فهكذا علمنا الرب أيضًا:
"18 إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ" رومية 12.
"48 وَإِنْ سَلَّمْتُمْ (طلبتم سلامة) عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟" متى 5.
"14 حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَمَةَ، وَاسْعَ وَرَاءَهَا " مزمور 34
(إن الكلمة العبرية "וְרָדְפֵהוּ"، المترجمة في الاية بعبارة "اسع وراءها"؛ هي كلمة "طارد"، كمطاردة الشرطة للمجرم؛ فلا تهدأ حتى يهب الله السلام في البلد الذي تسكن به!!)
بحسب أي مبادئ للسلام الأرضي يجب أن نسعى:
"1 فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ، أَنْ تُقَامَ طَلِبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، 2 لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً (السلام الأرضي) فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ 3 لأَنَّ هذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ، 4 الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" 1 تيموثاوس 2.
منهاج الله للسلام الأرضي، متأسس على ثلاثة أساسات:
(1) سلام يحقق حرية العبادة لكل إنسان، وذلك من عبارة: "فِي كُلِّ تَقْوَى". سلام قائم على حرية المسلم مثلا في أي دول إسلامية بأن يتبع المسيح دون أن يضطهده أحد.
(2) من عبارة "ووقار"، نعلم أنه يجب أن يكون سلامٌ قائمٌ على إكرام الإنسان وإنصافه والمساواة بين الناس.
(3) أن لا يكون السلام هو الهدف، بل الهدف أن يعرف الناس المسيح ويتصالحوا مع الله، وذلك من آخر آية 3 و4: ".. مُخَلِّصِنَا اللهِ، 4 الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ."
فلا نسعى نحو سلام لأجل السلام!! أوروبا فيها سلام أرضي، لكن ملكوت الله نائم! فهل لأجل هذا الهدف جاء المسيح وخلص البشر؟ المسيح لم يأتي ليرقع عالمنا الشرير الفاسد، بل ليخلصه ويدعو له شعبًا يسعى نحو ملكوت سماوي كامل دائم؛ لأنه سيصنع كل شيء جديدًا، طاهر وكامل (رؤيا 21: 5).
لأن سفك دم البشر ينجس الأرض، وكريهٌ جدًا في عيون الله:
"10 فَقَالَ (الله لقايين): «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ" تكوين 4
نرى أيضًا الرب يرفض أن يبني داود الملك هيكل له؛ بالرغم من أنه يشهد أنه رجل بحسب قلبه (أعمال 13: 22)، والسبب الصاعق هو – الحروب وسفك الدم:
"8 فَكَانَ إليَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلًا: قَدْ سَفَكْتَ دَمًا كَثِيرًا وَعَمِلْتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرْضِ أَمَامِي" 1 أيام 22
سفك الدم ثمنه عظيم يدفعه الشعوب!
نعم لسفك الدم ثمن باهض يدفعه الشعوب؛ حيث نرى دائمًا عبر كل العصور، الشعوب هي في النهاية التي تدفع فواتير الحرب وليس القادة السياسيين. القادة في معظم الأحيان يحققون مكاسب من وراء الحروب: سياسية، شخصية، مالية... إلخ، للأسف!
"12 وَيْلٌ لِلْبَانِي مَدِينَةً بِالدِّمَاءِ، وَلِلْمُؤَسِّسِ قَرْيَةً بِالإِثْمِ!" حبقوق 2.
"7 لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا" غلاطية 6
"52 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!" متى 26.
موقفنا من فئتين من الحروب:
لا يتفق المسيحيون حول موقف المؤمن من حرب ممكن أن تخوضها دولته. نجد مسيحيين يؤمنون أن كل حرب هي من الشيطان، والقضية بهذا الشكل واضحة ومحسومة بالنسبة لهم. وهناك مؤمنين يفهمون أن الحالة هي التي تقرر هل الحرب من الشيطان أم مقبوله لديهم، ضرورية، أو مشروعة. فإذا مثلا دولة هاجمت دولتي التي أسكن بها كمؤمن؛ ودولتي دخلت في حرب مُجبرة عليها دفاعية عن الدولة والشعب، الذي أنا جزء منه. هل في هذه الحالة تكون حرب دولتي من الشيطان؟ أسئلة كثيرة عديدة، تحتاج لدراسة ورد كتابي يفصل القضية بأمثلة كتابية أوسع. للجواب على هذه الأسئلة، سنقول الآتي:
أولا، مقاومة ميليشيات منفصلة عن الدولة المنظمة:
ونقصد بها مليشيات مثل حزب الله أو حماس، منفصلة عن الدولة المنظمة. أي نمط من الحرب أو المقاومة الشعبية، منظمة أو عشوائية، التي ليست في إطار جيش لدولة رسمية. مرفوضة تمامًا بأي شكل من الأشكال:
"21 يَا ابْنِي، اخْشَ الرَّبَّ وَالْمَلِكَ. لاَ تُخَالِطِ الْمُتَقَلِّبِينَ (עִם-שׁוֹנִים, אַל-תִּתְעָרָב، مع الثائرين، المتمردين لا تشترك)، 22 لأَنَّ بَلِيَّتَهُمْ تَقُومُ بَغْتَةً، وَمَنْ يَعْلَمُ بَلاَءَهُمَا كِلَيْهِمَا" أمثال 24
تندرج تحت أفعال أبشالوم، أدونيا بن حاجيت...
تشمل أيضًا عدم محاولة لتغيير أي حالة ظلم تعيش فيها، بواسطة العنف والحرب والثورات:
"20 اَلدَّعْوَةُ الَّتِي دُعِيَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ فَلْيَلْبَثْ فِيهَا. 21 دُعِيتَ وَأَنْتَ عَبْدٌ فَلاَ يَهُمَّكَ (لا تكون مهمومًا، قلقًا). بَلْ وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصِيرَ حُرًّا فَاسْتَعْمِلْهَا بِالْحَرِيِّ. 22 لأَنَّ مَنْ دُعِيَ فِي الرَّبِّ وَهُوَ عَبْدٌ، فَهُوَ عَتِيقُ الرَّبِّ. كَذلِكَ أَيْضًا الْحُرُّ الْمَدْعُوُّ هُوَ عَبْدٌ لِلْمَسِيحِ. 23 قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ، فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيدًا لِلنَّاسِ. 24 مَا دُعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَلْيَلْبَثْ فِي ذلِكَ مَعَ اللهِ" 1 كورنثوس 7
ثانيًا، حرب جيش دولة منظمة لدولة أخرى:
أما حرب جيش دولة منظمة لدولة أخرى، فالمسيحيين عندهم ثلاث مواقف أساية من هذه الحرب. وكل موقف، يتفرع نه عدة نماذج. لكن لأجل التبسيط سنذكر المواقف الأساسية فقط:
أولا، ضد أي حرب (Pacifism):
غير مؤيدي لكل الحروب – لا توجد حرب عادلة برأيهم؛ لكن هناك أنماط كثيرة من هذه الفئة. فهناك مؤمنين يؤمنون أن كل حرب هي من الشيطان وضد إرادة الله. وهناك من يؤمنون أن هناك حروب أيضًا من الجسد. لكن كل الفئات من هذا النمط، يؤمنون أنه يجب أن يكون المؤمن ضد كل الحروب (بطرق وتنوعات متعددة)، دون أي جدل أو فرق.
ثانيًا، مع الدولة في أي حرب (Activism):
فكرة تأييد حروب الدولة، تأتي من طاعتنا لآية 1 تيموثاوس 2:
"1 فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ، أَنْ تُقَامَ طَلِبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، 2 لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ" 1 تيموثاوس 2.
فطالما نطيع أمر الرب، ونصلي للقيادة السياسية بإيمان؛ إذا نحتاج أن نعتبر قرار القيادة السياسية للبلد شن الحرب، هو من الرب (الموقف الأكثر تطرفًا)، أو بسماح من الله (الأقل تطرفًا). ولا يجب أن نعترض عليه أبدًا.
ثالثا، انتقائي الموقف حسب الحالة (Selectivism):
ممكن أن يكون هناك حرب عادلة أو مشروعة، كالحروب الدفاعية مثلا؛ لذلك يجب أخذ القرار بحسب الحالة. فإذا دولة حاربت دولتي لكي تحتلها، على سبيل المثال. ودولتي، بقرار رسمي قررت أن تحارب الدولة المعتدية كحرب دفاعية، مفروضة عليها، لتحمي شعبها البريء. هذه تُعد حرب مشروعة، لأنها غير معتدية، بل تدافع عن شعبها. وهي قناعة تشمل الموقفين السابقين معًا. أي الذين يتبنون هذا الموقف، يقدروا أن يأخذوا الموقفين السابقين في حالات مختلفة.
كل ما سبق، يعطينا نظرة كتابية لرأي الله في الحروب. يعلمنا أن نسعى نحو السلام الأرضي، بمنهاج معين علمنا اياه. ونرى كيف أن مواقف المسيحيين مختلفة من جهة الحروب، ويتفرعوا لثلاث فئات. فمع أن آراء المسيحيين ليست متوافقة بشكل تام في قضية الحروب. لكن من المؤكد في الأمر أن الله يبغض سفك الدم، ويريدنا أن نسعى دائمًا لدعوة الناس للسلام مع الله، والحلول السلمية بين البشر.
القدس - 13/ 5/ 2025
باسم أدرنلي