كنيسة بلا جدران

هل الكتاب المقدس دعا إلى تبعية "دين"؟

لنتعلم بشكل دقيق ومُوَسَّع عن هذا الموضوع، سنستعرض تردد كلمة "دين" في العهد القديم والجديد. وندرس معانيهًا والطريقة التي اسْتُخدمت بها. وفي النهاية سنعرض ما هي رؤية الله لما يسميه الناس "دين"، بالنسبة لنا كشعب المسيح.

كلمة "دين" في العهد القديم:
إن كلمة "دين"، بالعبري "דת دات"، وردت في العهد القديم حوالي 33 مرة، للإشارة للشرائع والديانات الوثنية!! فلم ترد ولا مرة واحدة للإشارة لعبادة "يهوه" الله، إله إبراهيم وأسحاق ويعقوب. لذلك نراها وردت في العهد القديم، فقط في أسفار السبي (أستير، دانيال، وعزرا). وتُرجمت في ترجمة الفاندايك، بكلمات عدة مثل: "سنة، شريعة"، عندما أشير بها لعبادات الوثنيين. أو ترجمت بكلمات: "قول، أمر" عندما وردت من جهة ذات سلطان عظيم، كالملك. أمثلة التي الطريقة التي ترجمت بها:
أستير 1 "13.. لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ أَمْرُ الْمَلِكِ نَحْوَ جَمِيعِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ وَالْقَضَاءِ"
واستير 3 "14 صُورَةُ الْكِتَابَةِ الْمُعْطَاةِ سُنَّةً فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ.."
وأستير 9 "14 فَأَمَرَ الْمَلِكُ أَنْ يَعْمَلُوا هكَذَا، وَأُعْطِيَ الأَمْرُ فِي شُوشَنَ. فَصَلَبُوا بَنِي هَامَانَ الْعَشَرَةَ"
دانيال 6 "15 .. اعْلَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنَّ شَرِيعَةَ مَادِي وَفَارِسَ هِيَ أَنَّ كُلَّ نَهْيٍ أَوْ أَمْرٍ يَضَعُهُ الْمَلِكُ لاَ يَتَغَيَّرُ"
وفي ترجمة السبعين شيخ (LXX)، التي تُرجِمت في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد؛ قاموا بترجمة كلمة دين "דָּ֖ת دات" الواردة سابقًا، بكلمة "δόγμα" "دوغما"؛ وتعني حرفيًا مذهب: ديني، سياسي أو غيره. 
تكرار كلمة "دين" "דת  دات"، في العهد القديم:
استير: 1: 8، 13، 15، 19  و2: 8، 12  و3: 8، 14-15  و4: 3، 8، 11، 16  و8: 13-14، 17  و9: 1، 13-14.
دانيال: 2: 9، 13، 15  و6: 5، 8، 12، 15  و7: 25.
عزرا: 7: 12، 14، 21، 25-26  و8: 36.
نراها استخدمت في العهد القديم بطريقتين:
(1) للإشارة بها للعبادات الوثنية أو قوانين وأوامر سنها الملك الوثني.
(2) يستخدمها الوثنيون عندما يصفون عبادة شعب إسرائيل؛ مثل:
"فَقَالَ هؤُلاَءِ الرِّجَالُ: «لاَ نَجِدُ عَلَى دَانِيآلَ هذَا عِلَّةً إِلاَّ أَنْ نَجِدَهَا مِنْ جِهَةِ شَرِيعَةِ إِلهِهِ (دين إلهه)»" (دانيال 6: 5).

استخدام كلمة "دين" "ديانة" في العهد الجديد:
أما في ظل العهد الجديد، فكلمة "دين" أو "متدين" (بحسب ترجمة الفاندايك)، وردت 4 مرات فقط. وتترجم بمعنى: "دين، ديانة، عبادة. واستخدمت بطريقتين:
(1) وردت مرة لوصف العبادات الوثنية أو الغريبة:
"لاَ يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ الْجِعَالَةَ، رَاغِبًا فِي التَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ، مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ، مُنْتَفِخًا بَاطِلاً مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ الْجَسَدِيِّ" (كولوسي 2: 18)
(2) لوصف الإيمان المُطَبَّق عمليًا على مرأى العالم: 
"26 إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ (θρησκὸς فريسكوس)، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هذَا بَاطِلَةٌ 27 اَلدِّيَانَةُ (θρησκεία) الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ" يعقوب 1.
ففي الحالتين، لا يتكلم عن الدين بالمعنى الوثني المعروف، بل بمعنى "كيف يرى المجتمع المؤمن المسيحي، سيرته وأخلاقه؟".فيطرح تعريفه للديانة الطاهرة كـ: لجم اللسان، افتقاد اليتامى والأرامل، حفظ الإنسان قبله من دنس العالم!
وهذا نهج عبقري، فوجه إيماني لدى العالم الذين يتعاملون معي، هو أهم شاهد عن المسيح وتطبيقًا لتعاليمه "أنتم نور العالم". والعالم طبعًا لا يفهمون إيماني العقائدي ولا من أنا؛ فيحتاجون أن يضعوني في صندوق الديانات. والأربع مرات التي تكررت كلمة "دين" فيها، هي كلمة واحدة، وتختلف عن كلمة "دوغما"؛ التي استخدمها مترجمي العهد القديم لليونانية لكلمة "دين" العبرية المُستَخدمة في العهد القديم، كما رأينا في النقطة السابقة.
دعنا نرى تطبيقًا عمليًا عن "ديانة" في سيرة أجدادنا؛ كيف رآى أحد المؤرخين الرومان الوثنيين من القرن الأول، المؤمنين الأوائل بالمسيح: 
وهو پليني الصغير الذي عاش 61 - 113م؛ يصف الحياة المسيحية للمؤمنين الأوائل للأمبراطور ترجان، على هذا النحو:
"كانوا (المسيحيون) عندهم عادة في يوم معين في الأسبوع قبل شروق الشمس، ينشدون أناشيد مختلفة للمسيح، كإله، ويلتزمون معًا بعهد مُلزم: أن لا يفعلوا أعمال إثم، ولا يكذبوا، لا يسرقوا أو يزنوا، لا يزيفوا كلامهم، ولا يخونوا الأمانة عندما تُوصى إليهم، وبعدها كانوا يفترقون. ومن ثم يجتمعون حول الطعام، لكن طعام من النوع البريء." [1]
يا لها من شهادة من أروع ما يكون، لسلوك وأخلاقيات المؤمنين بالمسيح الأوائل!! ونعم عبدوا المسيح كإله؛ فألوهية المسيح هي ليس شيء اخترعه المسيحيون في مجمع نيقيا، كما يدعي النقاد المسلمين. بل متأصل في كل العهد الجديد، ومن جميع المؤمنين الأوائل، إلى اليوم.
ففي الحالتين، كلمة "دين.. ديانة" تعامل معها العهد الجديد كأمر مفروض على المسيحي، كنتيجة لمعيشته في العالم. واستخدمها بشكل يتكلم عن المذهب الذي يراه العالم لي، وليس فعليًا رؤية الله لي. كما وضع معنى الكلمة قاموس سترونغ (Worship as expressed in ritual acts- Strong’s)؛ بهذه الطريقة نرى الرسول بولس يستخدمه لوصف يهوديته، قبل أن يعرف المسيح:
"عَالِمِينَ بِي مِنَ الأَوَّلِ، إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَشْهَدُوا، أَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا الأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيًّا" (أعمال الرسل 26: 5)
فهنا نجد بولس يصف اليهودية التي كان عليها بهذه الطريقة؛ لكي يفهم الملك هيرودس أغريباس الثاني الذي يمثل الرسول بولس أمامه!

كمؤمن، لا أساوم مع العالم، لكني أندمج معه!
نستنتج من جميع ما سبق، أن كلمة دين، ديانة، ليس لها أي وجود في العهد القديم. أما في العهد الجديد، فنرى أنها ليست كلمة مُستخدمة بشكل أساسي، عقائدي، بل ككلمة لربط إيماننا بمنظار الناس الذين في العالم. حيث يحتاجون أن يضعوا إيمانك في صندوق الديانات، لكي يفهموا كيف يصنفوك ويتعاملوا معك اجتماعيًا وقانونيًا. فنحن نسكن بينهم ونعيش لأجلهم ولأجل ملكوت الله؛ لذلك المجتمع يحتاج أن يصنف الناس بمقاييس معينة. 
أما استخدام كلمة "دين" كأساس قائم عليه عبادة فئات من الناس، فهذا نهج وثني بحت لا نتبناه. الله لم يدعونا لتبعية دين ميت؛ بل دعانا لتبعية مسيح مُنْقِذ حي، يخلص كل من يأتي له تائبًا؛ ويقود حياة الإنسان كالراعي الصالح الأمين والمعين.
فقبولنا لجانب من هذا التصنيف، يندج تحت مشيئة الله لنا للارتباط مع العالم. لذلك نرى الوحي يظهر لنا الطريقة التي هَذَّبَ بها الروح القدس بولس، ليندمج مع العالم لمجد المسيح والعمل لأجل ملكوت الله؛ وذلك كما يلي:
"19 فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. 20 فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. 21 وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ - مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ ِللهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ - لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. 22 صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا. 23 وَهذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ، لأَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ" 1 كورنثوس 9.
وطبعًا نعرف من كلمات: "كيهودي.. كأني.. كضعيف.."، أنه لم يمثل أنه منهم؛ لكنه أحب الجميع، ونزل لكي إنسان إلى المكان الذي فيه. والسبب كما قال: "لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا". أليس هذا ما نتعلمه من المسيح، الديانة هي تعاملنا مع الناس؛ أي الوجه الذي يروه منا!! 

القدس - 21/ 12/ 2025
باسم أدرنلي

[1] Pliny the Younger; Book 10, Letter 96; ‘TO THE EMPEROR TRAJAN’
 

82 مشاهدة