دور الماضي، الحاضر والمستقبل في تشكيل حياة البشر
يوجد في حياتنا ثلاثة أركان زمنية تساهم في تشكيل آرائنا، نهج حياتنا، قراراتنا، والمذهب الذي نؤمن به. فما تصرفاتنا في الحاضرة، سوى مزيج بين تفاعلنا مع هذه الأركان: (1) تجارب الماضي، (2) قرارات الحاضر (3) والأحلام والرؤى المستقبلية، سواء مخططات قصيرة أو بعيدة الأمد. ومفهوم فطريًا أن الحالة الصحية هي أن يكون هناك توازن بين نظرتنا الصحية للماضي، حياتنا في الحاضرة، وحلمنا وخططنا المستقبلية.
لكن للأسف كلمة "توازن" المذكورة، لا تحل مشكلة التفاصيل الصعبة والمركبة بين ثلاثة الأركان الزمنية هذه التي تؤثر على حياتنا. حيث نرى كيف أن البشر، بآراءهم ومذاهبهم المختلفة، انتهجوا أحيانًا تطرف في مدى تأثير كل ركن من الأركان السابقة على واقعهم عبر العصور.
وقسم التطرف في هذه المناهج للمذاهب الفكرية والعقائدية، على النحو التالي:
التقليدية (Traditionalism):
يركزون أكثر شيء على الماضي؛ فلا يحبون التغيير، يقدسون العادات والتقاليد، والمنهاج الديني الذي تسلموه من الآباء والأجداد. وبسبب العيش في الماضي، ممكن أن يصبح التاريخ لديهم مثالي، كإله يعبدونه! ويدرس كمجرد نشرة دعائية منتقاه عن أناس عظيمة جدًا، لا يمكن أن نتشبه بهم اليوم؛ لذلك يجب أن نتبع نهجهم بشكل تام، دون فحص أو تغيير. فيصعب على هؤلاء قضية نقد التاريخ، لأن حياتهم كلها مبنية على عيشهم في التاريخ؛ فكأنك تزعزع الأساس الذي يقفون عليه!! وطبعًا، نتكلم هنا عن حالة تطرف تقود الناس للتجمد في الماضي! ولا نتكلم عن دعوة لعدم الاهتمام في التاريخ والتقليد وتعلم العبر من الماضي. بل بالعكس، أن يكون هناك توازن بين الثلاث حقبات الزمنية؛ الماضي، الحاضر والمستقبل.
الوجودية (Existentialism):
وأصحابها يتسمون بالتطرف لتقديس الحاضر؛ فتجدهم لا يهتمون في أي ثوابت تقليدية، دينية قديمة، أو أحيانًا خلقية. أيضًا لا ينظرون للمستقبل بنظرة هامة، فمبدأهم، عش اللحظة لأنك لا تعلم ماذا سيحدث في الغد! وفي العامي نستذكر القول؛ "عيِّشني اليوم واقتلي بكره"!!
اليوتوبية (Utopianism):
يركزون أكثر شيء على المستقبل والحلم المرجو، فيتجاهلون تصرفات الحاضر. لذلك لا يمانعون في الدوس على الحاضر وإنسان الحاضر، في سبيل تحقيق الحلم المستقبلي؛ الذي كثيرًا ما يكون مجرد خيال لا يمكن تحقيقه. كالشيوعيين، الذين لم يكن عندهم مشكلة في قتل أكثر من 60 مليون إنسان في القرن الماضي؛ في سبيل تحقيق المجتمع المثالي المرجو؛ الذي لا يوجد فيه فقر، ألم أو ظلم!! لكن عند التطبيق، نراهم داسو على دماء عشرات الملايين من الناس، وأصبحوا يعيشون في أظلم مجتمع!! فلم يحققوا أي شيء ملحوظ من الحلم الوهمي المَرْجو المُضل. فمشكلتهم هي ليس أن حلمهم سيء؛ بل عدم اهتمامهم بالحاضر، والمكوث في الحلم المستقبلي، جعلهم يتبنوا مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"! لذلك لم يدركوا أن الوسيلة القمعية التي انتهجوها في الحاضر، وضعت أساسات متعفنة، لا يمكن بناء أي شيء صحي كامل عليها في المستقبل! فإذا لم تكن لدينا علاقة صحية مع الحاضر، لا يمكن أن نبني أي بناء مستقبلي جيد أبدًا. كذلك أيضًا دعاة الخلافة الإسلامية المثالية! التي لم يتمتع بها ولا حتى الخلفاء الراشدين؛ بل اختبروا العكس تمامًا! وهؤلاء لا يزالون يخربون أوطاننا، ويزرعون الطائفية والإرهاب والفتن؛ وكأنهم ليسوا بوعيهم. فخمار حلمهم المستقبلي الخيالي، أسكرهم وخدرهم وغَيَّبَهًم عو إدراكهم لواقعهم المخزي والأثيم والفاشل للأسف!
فكما قلنا في بداية المقال، إن علاقتنا الصحية بالماضي، الحاضر والمستقبل، مهمة جدًا، إذا أردنا أن نحيى حياة ناجحة ومثمرة. لكن نرى أن كل من ثلاث الأركان الزمنية السابقة، تحمل تطرفًا يجعل نهجها غير ناجح. لذلك بحسب رأيي، فقط بواسطة سيادة المسيح على حياتنا، تقدر أن تصنع هذا التوازن السماوي المبارك في حياتنا وحياة من حولنا.
أولا: المسيح علم على أهمية محورية الحاضر كالشريان الذي يغذي حياتنا ويحدد مصيرينا الأرضي والأبجي؛ لذلك قال:
"31 فَلاَ تَهْتَمُّوا (لا تكونوا مهمومين) قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32 فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. 33 لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34 فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ." متى 6.
فيطرح المسيح المفتاح للتوازن بين الماضي، الحاضر والمستقبل، هو تسليم حياتنا وقلوبنا لملك الله اليوم. وعندها سيرعى الله حاضرننا ولحظة الآن وكل أوان.
ثانيًا: الطريق للتوازن الحقيقي بين خبرات الماضي، عمل الله فينا في الحاضر، ورؤيته لنا في المستقبل، يكمن في عيشنا لملكوت الله وليس لذلتنا. فالله الخالق، هو الوحيد الذي يقدر أن يوازن الثلاث أركان جيدًا، كما قال:
"33 لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ (أي جميع أمور حياتنا وترتيبها، سيترتب بشكل رباني في أحسن حال)" متى 6.
في الآية هذه، المسيح يدعونا لأن لا نكون مهمومين وقلقين على احتياجات الجسد. حيث يقول شيء غريب:
"13 لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ (سنعيش حياة روحية غير فاعلة)، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ" رومية 8.
أي أن روح الله العامل فينا عندما نُفَعِّلُه، نُفعِّل حياة الله فينا؛ حيث هو الوحيد الذي يقدر أن يوازن الأركان الزمنية الثلاثة في حياتنا بشكل صحي وكامل.
ثالثًا: ربوبية الله على حياتنا في الحاضر، تكمن في ربوبية المسيح:
فالمسيح جمع من خلال الحاضر، علاقة متوازنة بين الماضي والمستقبل؛ لذلك كان دائمًا يؤكد لنا ويقول:
"4.. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الْكَائِنِ (وهو المسيح - في الحاضر) وَالَّذِي كَانَ (في الماضي) وَالَّذِي يَأْتِي (في المستقبل)... 8 .. يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" رؤيا 1.
نرى أيضًا في خاتمة الآية العبارة: "الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"! أي أن المسيح هو الوحيد القادر على ضبط أمور حياتنا بشكل كامل. هو قادر أن يعيد لي ذكريات الماضي ويفهمني ماذا أتعلم منها ويشفي جروحي العالقة في اختبارات الماضي؛ وهو الذي يرشدني في الحاضر كيف افكر، أقول، وأعمل. وأيضًا يعطيني رؤى مستقبلية بحسب مشيئته. فخالق الزمن، هو الوحيد الذي يقدر أن يمسك الزمن بيده، لأجلي.
ونرى هذا الترتيب المذهل في عدة آيات أخرى:
"الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي" رؤيا 11: 17
"5 وَسَمِعْتُ مَلاَكَ الْمِيَاهِ يَقُولُ: «عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذَا" رؤيا 16.
الملفت في الآيات، هو ذكر الحاضر أولا "الكائن"، بعده الماضي "الذي كان"، ومن ثم المستقبل "الذي يأتي"! أي بعدما أطلب ملكوت الله ليملك على قلبي وفكري وحياتي في الحاضر؛ ليرشدني كيف أفكر، أتكلم وأعمل. وذلك بمعونة وإرشاد الروح القدس لكي يذكرني بحكمته ودروسه لي من الماضي (ليس حكمتي ودروسي أنا، بل دروس الرب لي)؛ ليساعدني في قرارات الحاضر. وأيضًا بعدما امتلك الحاضر، أخطط للمستقبل برؤى إلهية صحية كاملة لحياتي.
مبارك أنت أيها الآب، الابن والروح القدس؛ الإله الواحد الأحد، خالق وحاكم الزمن وكل شيء.
القدس - 24/ 10/ 2025
باسم أدرنلي