الزواج وتعدد الزوجات، عبر العصور البشرية
هناك حقبات تاريخية مختلفة تساعدنا على فهم قضية الزواج وتعدد الزوجات، التي يسري عليها شرائع إلهية مختلفة. وللأسف، لا يميز بينها الكثير من المعترضين والنقاد. وهذه الدهور ذات الشرائع الإلهية المختلفة، هي كما يلي:
أولا، عصر ما قبل سقوط آدم:
فيه الله خلق حواء من ضلع آدم، كزوجة واحدة ووحيدة له. لم يخلقها الله من عظم رجله، وليس من رأسه، كأنها أقل منه أو تسود عليه. بل من ضلعه، أي الأقرب إلى قلبه، مساوية تمامًا له في القيمة والحقوق. كما قال عنها آدم عندما خلقت: "هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي" (التكوين 2: 23)؛ أي حواء جزء لا يتجزأ مني. فكما أنه لا يمكن أن يكون لدى الجسد عظم إضافي بخلاف الطبيعة!! وإلا سيكون الجسد ذات إعاقة. كذلك إذا الرجل تزوج أكثر من امرأة واحدة، تصبح أسرته كلها إعاقات ومشاكل وعدم صحة.
لذلك يعلم وحي العهد الجديد الرجال، من خلال المسيح الذي أرجع البشر لهذه الحقبة التي سقطوا منها:
"28 كَذلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ." أفسس 5.
وبعدما زوجها الله لآدم، علمه عن الزواج الآتي:
"24 لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا." التكوين 2.
أن الزواج يشكل وحدة خلية أسرية مستقلة عن بيت الأب، ليبدأ دورة خلية حياة أسرية جديدة مستقلة في العالم. فيها يكون الرجل والمرأة في عهد إلهي مقدس يُسمى زواج؛ جسد واحد متحد، لا فصل فيه؛ ولا زواج من الرجل عليها قط. حتى يفصل فقط الموت بينهما.
ثانيًا، عصر عهد آدم بعد السقوط وعهد نوح:
بعد سقوط آدم وحواء من النموذج السابق الذي خلقه الله، أحد عواقب الخطية كانت، سيادة الرجل على المرأة، سيادة أثيمة:
"إِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ." (التكوين 3: 16).
وذلك بسبب اللعنة التي حلت على عالمنا بعد السقوط. لأن آدم بتمرده على الله، أخرج العالم المُوكَّل إليه من تحت حماية الله. لذلك قال الله له:
"مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ" (التكوين 3: 17).
أحد علامات نتائج هذه اللعنة، هو سيادة الرجل الأثيمة على المرأة؛ والذي أحد عواقبها هو تعدد الزوجات! فكان تعدد الزوجات في عصر شريعة آدم ونوح غير محلل؛ لكن في نفس الوقت، لم يضع الله شرائع تحرمه أيضًا. حيث كانت شرائع آدم ونوح بسيطة، طفولية، لا تتعدى السبع وصايا. لذلك، نرى في هذا العصر أول تعدد زوجات؛ حيث تزوج لامك ابن قايين، من امرأتين:
"19 وَاتَّخَذَ لاَمَكُ لِنَفْسِهِ امْرَأَتَيْنِ: اسْمُ الْوَاحِدَةِ عَادَةُ، وَاسْمُ الأُخْرَى صِلَّةُ." التكوين 4.
فلم يحرم الله تعدد الزوجات ولم يحلله. بل ترك الإنسان للفطرة البشرية الخاطئة ليحقق وصية التكاثر فقط. حيث كانت وصايا الله لآدم وحواء أن يتكاثروا:
"28 وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ.." تكوين 1
وكانت وصية الله لنوح، حوالي 1100 سنة بعد آدم، مماثلة تمامًا:
"1 وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ" تكوين 9.
وهنا نحتاج أن نوضح أمرًا هامًا، يجيب على الكثير من نقد النقاد غير الفاهمين. من جهة زواج الرجل من فتيات ذوي قرابة أولى، مثل الأخت، البنت...إلخ؛ لم يكن محرمًا في هذا العصر.
فأولاد آدم، كقايين وشيث، من تزوجوا؟ أخواتهم طبعًا. لأن آدم وحواء هما أبوا كل البشر (أعمال 17: 26). لذلك نجد أن إبراهيم الصديق ذاته، وهو أبو المؤمنين، كانت زوجته سارة اخته من أبيه!!
"11 فقال إبراهيم.. 12 وَبِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا هِيَ أُخْتِي ابْنَةُ أَبِي، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتِ ابْنَةَ أُمِّي، فَصَارَتْ لِي زَوْجَةً" تكوين 20.
ثالثًا، عصر عهد شريعة موسى والناموس:
عندما أنزلت الشريعة على موسى في جبل سيناء، التي تبدأ من خروج 20، إلى نهاية سفر التثنية (613 وصية)؛ حرمت زواج ذوي القرابة الأولى وجزء من الثانية، الذي كان محللاً تحت شريعتي آدم ونوح. نرى ذلك في عدة نصوص (مثل: لاويين 20: 11-17 وتثنية 27: 20-23). فمثلا، ما فعله إبراهيم في النقطة السابقة، أكثر من 600 سنة قبل نزول شريعة موسى، أصبح محرمًا بعد نزول الشريعة سنة 1445 ق.م.:
"17 وَإِذَا أَخَذَ رَجُلٌ أُخْتَهُ بِنْتَ أَبِيهِ أَوْ بِنْتَ أُمِّهِ، وَرَأَى عَوْرَتَهَا وَرَأَتْ هِيَ عَوْرَتَهُ، فَذلِكَ عَارٌ. يُقْطَعَانِ أَمَامَ أَعْيُنِ بَنِي شَعْبِهِمَا. قَدْ كَشَفَ عَوْرَةَ أُخْتِهِ. يَحْمِلُ ذَنْبَهُ." اللاويين 20.
لكن الكثير من النقاد، لا يميزون بين قبل شريعة موسى، وبعدها للأسف! مثل اضطجاع لوط مع ابنتيه (تكوين 19: 30-36)؛ ويهوذا مع ثامار أرملة ابنه، أي التي كانت كنته (تكوين 38: 13-30). مع أنه في كلتا الحالتين، ستكون المعاشرة غير مقبولة لدى لوط ويهوذا، بفطرة أناس صديقين مثلهم. لذلك لم تحدث بطرق طبيعية؛ حيث إثناهما لم يكونا مُدْرِكان لما حدث. لكننا مع هذا، يجب أن ندرك أنه شرعًا، لم يكن ذلك مُحَرَّمًا بحسب شريعة نوح التي عاشا تحتها.
فمن الطبيعي بحسب الوحي، أن الخطية لا تُحسب قبل نزول وصية التحريم لها:
".. عَلَى أَنَّ الْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ" (رومية 5: 13).
وهنا نأتي لأهم سؤال: هل حللت شريعة موسى تعدد الزوجات؟
وهنا نأتي لأهم سؤال يثير اهتمام الباحثين. عندما أتت شريعة موسى، قامت بالتوصية للابتعاد عن تعدد الزوجات، وليس لتحريمه قطعيًا. فجعلت ممارسته مكروهة، أو غير مستحبة. وذلك لسببين:
(1) مع أننا لا نرى في شريعة موسى آية واضحة تتيح أو تمنع تعدد الزوجات. لكن نستنتج اعتبار تعدد الزوجات مكروهًا لدى الله، من روايات الوحي عن سلوك الأنبياء والكهنة من موسى وما بعده. الذين من المتوقع أن يكونوا أتقياء مخلصين لكلام الله وقريبين منه. فنرى أنه لم يتزوج أيٌّ من الأنبياء أو الكهنة بأكثر من زوجة واحدة فقط؛ من موسى إلى آخر نبي وكاهن عرفناه. لذلك نأتي لاستنتاج مُعلن لنا من خلال سلوك الأنبياء، أن تعدد الزوجات كان مكروهًا، وغير مستحبًا؛ وحتى لو لم نر آية تحرمه بشكل صارم.
(2) نرى تأكيد لهذه الفكرة أيضًا من نهي الله الملوك عن تعدد الزوجات وتكثير الأملاك:
"15 فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكًا الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ... 17 وَلاَ يُكَثِّرْ لَهُ نِسَاءً لِئَلاَّ يَزِيغَ قَلْبُهُ. وَفِضَّةً وَذَهَبًا لاَ يُكَثِّرْ لَهُ كَثِيرًا" تثنية 17.
مع أن الكثير من الملوك لم يطيعوا وصية الله، مثل الملك داود وسليمان. لكن من هذه الآية نستنتج أنه إما أن يكون تعدد الزواجات في شريعة موسى محرمًا على من يريد أن يتبع الرب فعلاً (كالأنبياء والكهنة). أو أن يكون مكروهًا؛ وبهذا ندرك أنه شر، وليس بحسب قلب الله إطلاقًا.
بعض النقاد يدعون بأن الله حلل الزواج بأكثر من امرأة تحت شريعة موسى، استنادًا على نصين:
الأول: "7 وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ ابْنَتَهُ أَمَةً لاَ تَخْرُجُ كَمَا يَخْرُجُ الْعَبِيدُ. 8 إِنْ قَبُحَتْ فِي عَيْنَيْ سَيِّدِهَا الَّذِي خَطَبَهَا لِنَفْسِهِ يَدَعُهَا تُفَكُّ. وَلَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يَبِيعَهَا لِقَوْمٍ أَجَانِبَ لِغَدْرِهِ بِهَا. 9 وَإِنْ خَطَبَهَا لاِبْنِهِ فَبِحَسَبِ حَقِّ الْبَنَاتِ يَفْعَلُ لَهَا. 10 إِنِ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أُخْرَى لاَ يُنَقِّصُ طَعَامَهَا وَكِسْوَتَهَا وَمُعَاشَرَتَهَا. 11 وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَهَا هَذِهِ الثَّلاَثَ تَخْرُجُ مَجَّاناً بِلاَ ثَمَنٍ." خروج 21.
في هذه الآيات السابقة، هنا لا يتكلم الله عن الزواج، لكن عن شريعة العبد، كما يبدأ الأصحاح بـ:
"2 إِذَا اشْتَرَيْتَ عَبْداً عِبْرَانِيّاً فَسِتَّ سِنِينَ يَخْدِمُ وَفِي السَّابِعَةِ يَخْرُجُ حُرّاً مَجَّاناً." خروج 21.
فسياق الآيات يستعرض ترتيب شريعة العبيد والإماء، وليس الزواج بشكل خاص.
الثاني: "«15 إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ امْرَأَتَانِ إِحْدَاهُمَا مَحْبُوبَةٌ وَالأُخْرَى مَكْرُوهَةٌ فَوَلدَتَا لهُ بَنِينَ المَحْبُوبَةُ وَالمَكْرُوهَةُ. فَإِنْ كَانَ الاِبْنُ البِكْرُ لِلمَكْرُوهَةِ 16 فَيَوْمَ يَقْسِمُ لِبَنِيهِ مَا كَانَ لهُ لا يَحِلُّ لهُ أَنْ يُقَدِّمَ ابْنَ المَحْبُوبَةِ بِكْراً عَلى ابْنِ المَكْرُوهَةِ البِكْرِ 17 بَل يَعْرِفُ ابْنَ المَكْرُوهَةِ بِكْراً لِيُعْطِيَهُ نَصِيبَ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ مَا يُوجَدُ عِنْدَهُ لأَنَّهُ هُوَ أَوَّلُ قُدْرَتِهِ. لهُ حَقُّ البَكُورِيَّةِ." تثنية 21.
وفي هذه الآيات، يتكلم الله عن وضع قائم: "إذا كان لرجل امرأتان"؛ أي أن وصية الله هنا هي لتنظيم وضع قائم فيه لرجل امرأتان. لكن في جميع النصوص لا يوجد وصية واحدة تسمح بشكل مباشر الزواج بأكثر من امرأة واحدة.
رابعًا، المسيح ينهى تمامًا عن تعدد الزوجات:
نرى من تعاليم المسيح، أنه ينهى نهيًا تامًا عن تعدد الزوجات والطلاق. أي أتى ليُرجع تصويب الأسرة، كما كان عليه الحال قبل سقوط آدم وحواء.
"3 وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» 4 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ 5 وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا (أي يستشهد بنفس تكوين 2: 24؛ الحالة قبل السقوط)." متى 19.
وهنا نرى كيف المسيح أرجع البشر لمبادئ الله قبل سقوط آدم؛ مستشهدًا بنفس آيات تكوين 2، التي تعكس مبادئ الله للزواج قبل السقوط (ارجع للنقطة الأولى).
وللرجوع والرد على اعتراض المعترض؛ إذا كان تعدد الزواج مسموحًا قبل 3500 عام وما قبل، فالمسيح نهى عنه قبل 2000 عام؛ فكيف يأتي الإسلام بعد المسيح بـ 630 سنة، ويتيح للرجل أن يتزوج 4 نساء؟؟ هل من المعقول الإتيان بشريعة أدنى أخلاقيًا من الشريعة التي قبلها؛ والادعاء بأن هذا أفضل وأسمى للبشر!؟ كيف يقبل "الله" (والعياذ بالله) أن تُخزى الزوجة ويُنتَهَك حقها، بسماحه للرجل بأن يتزوج من امرأة لأربع نساء. وبهذا يعطي "الله" الحق للرجل بأن يسلب قهرًا المرأة من حقها في زوجها الكامل؛ ويكون بيده السلطة ليمنحها: نصف زوج، ثلث زوج، ومن ثم رُبع زوج؛ بدلا من زوج كامل. ويدعي متبجحًا أن ذلك أسمى لها وللبشرية!!! لست أرى من هذا أي شيء معقول وأخلاقي أبدًا، بل تدهور صارخ لما عمله المسيح، الذي أرجع المساواة التامة بين الرجل والمرأة، بالقيمة والحقوق (وليس بالأدوار طبعًا)، حيث قال:
"28 لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." غلاطية 3.
القدس - 23/ 10/ 2025
باسم أدرنلي