كنيسة بلا جدران

هل لدى جميع المسيحيين عقيدة واحدة؟

إن عظمة المسيحية هي أنها مرتكزة على عقيدة واحدة بين جميع المسيحيين بطوائفهم المختلفة؛ لكن قناعات شخصية مختلفة. وسنستعرض تفسير هاذين الأساسين، فيما يلي:

العقيدة وقانون الإيمان

إن العقيدة هي الحق الكتابي الذي يجب أن نحيى به ونموت عليه، إن كنا نؤمن به فعلا. هو الخط الأساسي للإيمان المسيحي الذي يحمل حقائق، كل واحدة منها مدعمة بمجموعة واضحة من الآيات التي لا تقبل التأويل والتشكيك. لذلك العقيدة هي في أقصى درجات الوضوح؛ حيث هي الهيكل العظمي الذي يحمل كل الإيمان والحياة المسيحية. مع أن المسيحيين تجادلوا كثيرًا لإيجاد أفضل صيغة ممكنة لما فهموه من ثوابت الإيمان من المسيح، لكي لا يتركوا أي ثغرة في الصياغة تعطي فرصة لمروجي البدع لاستغلالها لضلالاتهم. لكن فهمهم لأساسات الإيمان التي سنراها لاحقًا في قانون الإيمان، كان دائمًا ثابتًا، غير متغير. والدليل القاطع على صحة المسيحية وثباتها المعجز من جهة عقيدة إيمانها بالمقارنة مع جميع ديانات العالم، هو أنه حتى عند نشأت حركات الإصلاح بعد المسيح بأكثر من 1500 سنة، القرون 16 و17، لم يغير أحد من حركات الإصلاح أي حرف واحد في قانون الإيمان الذي كتبه الآباء! ولم ترفض أي طائفة مسيحية أي عنصر جوهري في قانون الإيمان. وهذا دليل صارخ على صحته، وثباته. وهذه العقيدة تكمن في قانون الإيمان المسيحي الذي أقره المطارنة في القرن الرابع الميلادي، في القسطنطينية سنة 381 م:
(نص قانون الإيمان الأصلي، تجده فقط في لون الكتابة الأسود، والأزرق مجرد عناوين تساعد على تقسيمه وفهمه)

الإيمان: أؤمن بالله الواحد *،
الله الآب: الآب ضابط الكلّ*.
الخلق: خالق السماء والأرض، كل ما يُرى وما لا يُرى،
يسوع المسيح الابن: وبالرب الواحد يسوع المسيح *، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، النور من النور *، الله الحق من الله الحق *، مولودٌ غير مخلوق، مساوٍ الآب في الجوهر، الذي به كان كلّ شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء،
التجسد: وتجسّد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنّس،
الفداء: وصُلِب عنّا على عهد بيلاطس البنطي، وتألّم، وقُبر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب،
الدينونة: وأيضًا يأتي بمجدٍ ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه،
الروح القدس: وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن، مسجود له ومُمَجّد، الناطق بالأنبياء،
الكنيسة: وبكنيسة واحدة، جامعة، مقدسة، رسولية،
المعمودية: وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا،
القيامة: وأترجّى قيامة الأموات وحياة في الدهر الآتي.
آمين.

* [لم يحسن المترجمون في الترجمة التقليدية للعربية، من جهة ترجمة أحرف التاج (capital letters)، ككلمات تبدأ في "ألـ" التعريف في العربية. لذلك قمت بتعديلها ببعض الأماكن، وترجمتها ترجمة أدق بحسب النص اليوناني الأصلي الموجود في: https://earlychurchtexts.com/public/nicene_creed.htm].

القناعات الشخصية

أما القناعات الشخصية "هي ليس من الممكن أن تعتبر أساسًا لعيش الحياة المسيحية. القناعات لها علاقة أكبر بضميرنا المدرب على الاستجابة بطريقة أو بأخرى لمواقف وقضايا معينة"[1]
إن القناعات الشخصية الروحية، تتشكل عندما ينبهني إليها ضميري، متأثر بما أفهمه من الكتاب المقدس؛ مما يؤثر على فكري، شخصيتي، وسلوكي. تختص بأمور لم يبينها الكتاب بشكل واضح، فلا توجد آيات واضحة تنهى عنها أو تؤيدها. تختص أكثر بأمور تخصني أنا ولا تؤثر على الآخرين. يفهمها مؤمنين مختلفين بشكل مختلف بحسب الخلفية والحالة والزمن الذي يعيشون فيه. 
إن الوحي نفسه علمنا عن إمكانية وجود قضايا فيها اختلافات كهذه بين المؤمنين. وأتاح لنا الفرصة لتبني قناعات شخصية مختلفة بيننا كمؤمنين بالمسيح. هذه التعاليم مستنبطة من نصوص عديدة، مثل:
"1 وَمَنْ هُوَ ضَعِيفٌ فِي الإِيمَانِ فَاقْبَلُوهُ لاَ لِمُحَاكَمَةِ الأَفْكَارِ. 2 وَاحِدٌ يُؤْمِنُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَيَأْكُلُ بُقُولاً. 3 لاَ يَزْدَرِ مَنْ يَأْكُلُ بِمَنْ لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَدِنْ مَنْ لاَ يَأْكُلُ مَنْ يَأْكُلُ - لأَنَّ اللهَ قَبِلَهُ. 4 مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلَكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ. 5 وَاحِدٌ يَعْتَبِرُ يَوْماً دُونَ يَوْمٍ وَآخَرُ يَعْتَبِرُ كُلَّ يَوْمٍ - فَلْيَتَيَقَّنْ كُلُّ وَاحِدٍ فِي عَقْلِهِ: 6 الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ يَهْتَمُّ وَالَّذِي لاَ يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ لاَ يَهْتَمُّ. وَالَّذِي يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ يَأْكُلُ لأَنَّهُ يَشْكُرُ اللهَ وَالَّذِي لاَ يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ لاَ يَأْكُلُ وَيَشْكُرُ اللهَ. 7 لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. 8 لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ" رومية 14.
نرى الوحي من خلال هذه الفقرة، يذكر أمرين كنماذج لقضايا ممكن أن يكون اختلاف عليها؛ وهي ليست في محور العقيدة إطلاقًا. شخص يؤمن بأنه ليس عنده مشكلة في أنواع أكل معينة، وآخر لا يأكل إلا بُقول، وهو من أقسى درجات التقشف (ع 2-4). شخص يريد أن يقدس يوم معين عن الآخر؛ مثلا شخص مسيحي يعيش في بلد إسلامي، وفيه يعيد من الشغل يوم الجمعة؛ ويريد أن يجعله يوم الرب بدلا من يوم الأحد؛ فليكن ليس مشكلة في ذلك (5-6).
فيحث الوحي المؤمنين، أن لا يستهزئوا ببعض، ولا يدينوا أو يكفروا بعض. فالقناعات الشخصية مبنية على مبادئ من رومية 14، سنستعرضها فيما يلي:

أولا، أمور لا توجد فيها آية واضحة تنهى عنها أو تدعو لها:
فالقناعات الشخصية تشمل طبعًا قضايا ليست في صُلب العقيدة، ولا يوجد بخصوصها آيات تنهى عنها أو تؤيدها؛ عادة تكون أشياء شخصية ولا تؤثر على الآخرين بشيء. لكن يجب أن ندرك أنه حتى لو لم توجد آية واضحة تنهى عنها أو تدعوا لها. هناك طبعًا مبادئ للتحليل والتحريم وضعها وحي العهد الجديد، تجعلنا نميز بكل وضوح؛ هل الممارسة مُلزمة، مُستَحبة، مَقبولة، مَكروهة، أم مُحرَّمة؟ يقدر أن يفهمها أبسط الناس، ولا تحتاج لاجتهاد علماء. فهذه القضية تميز بين التعاليم الإلهية الحقيقية وبين تعاليم الديانات البشرية المبتدعة. فكلام الله الحقيقي يجب أن يكون في قمة الوضوح، ومتاح ومفهوم لدى أبسط الناس. ستجد هذه المبادئ في هذا المقال

ثانيًا، أن لا ندين أو نُكفِّر بعض، بل نعطي هذا الحق لله فقط:
كما يؤكد الوحي من رومية 14 "3 .. لاَ يَدِنْ مَنْ لاَ يَأْكُلُ مَنْ يَأْكُلُ - لأَنَّ اللهَ قَبِلَهُ. 4 مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلَكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ." 
الآية تدعونا أن ندرك أن للإنسان المؤمن إله يقوده من خلال روحه القدوس؛ فليس حسنًا أن نحكم على الآخرين، لأننا بالتأكيد لسنا ذلك الإله (والعياذ بالله)!!
ويعود ويؤكد الوحي على هذه الحقيقة، أن الله العادل الديان، هو الرب يسوع المسيح؛ العدد 10: "وَأَمَّا أَنْتَ، فَلِمَاذَا تَدِينُ أَخَاكَ؟ أَوْ أَنْتَ أَيْضًا، لِمَاذَا تَزْدَرِي بِأَخِيكَ؟ لأَنَّنَا جَمِيعًا سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ" (راجع السبب لذلك في يوحنا 5: 22)
ف كل واحد منا سيعطي حساب عن نفسه:"12 فَإِذًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيُعْطِي عَنْ نَفْسِهِ حِسَابًا ِللهِ" رومية 14.

ثالثًا، المهم أن نفعل الممارسة لمجد الرب وليس للإنسان:
الوحي يعلمنا أن المهم في الأمر، أن نفحص دوافعنا، لماذا نفعل ما نفعل؟ وهي أهم من الفعل بذاته، أي ماذا نفعل. هل دافعي أن أمجد الرب وأكرمه، أم لي دوافع أخرى؟
وهذا ما يعلمنا اياه الوحي في رومية 14: "6 الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ يَهْتَمُّ وَالَّذِي لاَ يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ لاَ يَهْتَمُّ. وَالَّذِي يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ يَأْكُلُ لأَنَّهُ يَشْكُرُ اللهَ وَالَّذِي لاَ يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ لاَ يَأْكُلُ وَيَشْكُرُ اللهَ"
فأحد سمات الديانات البشرية المبتدعة، هي أنها تجعل الإنسان يعيش لأجل الناس، وإرضائهم. لأنها في الأصل بمعظمها ديانة من صنع الناس ومعتمدة بمعظمها على تشريعات البشر، فحصهم ورقابتهم لك. 

رابعًا، أن تدرك أن مشيئة الله بناء بعضنا البعض:
فالقناعات الشخصية يجب ألا تنتج تناحر، فتنة، انقسام، وتشويش في جسد المسيح، بل أن تكون للنباء والدعم الشخصي وللآخرين:
"19 فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ" رومية 14.
لذلك يؤكد الوحي أن الممارسة التي أعملها، يجب أن لا تُعثر الآخرين، وتؤخر إيمانهم:
"13 فَلاَ نُحَاكِمْ أَيْضًا بَعْضُنَا بَعْضًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ احْكُمُوا بِهذَا: أَنْ لاَ يُوضَعَ لِلأَخِ مَصْدَمَةٌ أَوْ مَعْثَرَةٌ" رومية 14.
وأن يكون اهتمامي منحصر على ما هو أفضل للآخر، وليس لنفسي:
"15 فَإِنْ كَانَ أَخُوكَ بِسَبَبِ طَعَامِكَ يُحْزَنُ، فَلَسْتَ تَسْلُكُ بَعْدُ حَسَبَ الْمَحَبَّةِ. لاَ تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذلِكَ الَّذِي مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِهِ." رومية 14.
وهذه النقطة، هي أحد أهم أوصاف الديانات البشرية المبتدعة؛ هي تعلم التابع لها أن ينحصر حول حقوقه الشرعية، وليس مشاعر الآخرين ومصالحهم!! فيقول لك: "الشرع حلل لي هذا... هذا حقي الشرعي"، ولا يهمه إذا به داس على رؤوس الآخرين. فهذه الديانات تخلف مجتمع أناني، كلٌّ فيه مُنحصر في مصلحته وحقوقه "الشرعية"، وليس في مصلحة وحقوق الآخرين! أما الوحي الإلهي، فيعلم المؤمن بالمسيح بأن يتنازل عن حقه الإلهي، ليبارك به الآخرين؛ إن هذا لمن أعظم الفضائل المسيحية:
"3.. بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ 4 لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا" فيليبي 2.

إذا عظمة المسيحية هي أن بها عقيدة واحدة شاملة لجميع الطوائف المسيحية؛ وهناك قناعات شخصية وطائفية قد تختلف بين المؤمنين لدى الطوائف المختلقة. وأحيانًا ستجد اختلاف في القناعات الشخصية في نفس إطار الطائفة الواحدة؛ وهذا يجعل الإيمان المسيحي حيوي، ومتفاعل مع الشخص والحالة، وفي نفس الوقت يكون ثابت صلب، لأنه محمول على الهيكل العظمي الإلهي للعقيدة الواحدة، بين جميع الطوائف المسيحية.

[1] Barrier, Roger Dr. (https://www.crosswalk.com/church/pastors-or-leadership/ask-roger/personal-convictions-vs-biblical-truth.html
 

باسم أدرنلي - القدس 18/ 04/ 2023

3441 مشاهدة